عبد الحليم حافظ وحنين «الأبوا»
March 14 Movement Forum - منتدى 14 أذار
رحل ورحلت معه الرومانسية
ما فاتني تذكّره في مقاربتي ذكرى غياب عبد الحليم حافظ الـ29 السنة الفائتة، أحاول الى مقاربته في حلول ذكراه الثــلاثين هذه السنة، ما لفت الى أن بين المقطعين الثــاني والثـالث في الأغنية الرائعة للمطربة الراحلة هدى سلطان: «يا ورد الجناين يا سيّد الورود»، وقد كفّت الإذاعات مــنذ زمن عن إذاعتــها، بما فيها إذاعة القاهرة نفــسها، نسمع عزفا منـفردا مــن عبد الحليم حــافظ على «الأبوا». «الأبوا» هذه كان حليم يعزف عليها بتمكن، كما على البيانو، بينما يشوب الضعف عزفه على العود، ويجهل كيفية دوزنة أوتاره، آلة النفخ الخشبية، حنونة الصوت، بالغة الذبذبات الرهيفة، ليّنة الانعكافات، منها اكتسبت حنجرة عبد الحليم، طابعها وأسلوبها في الأداء.
«الأبوا» طبعت حنجرة عبد الحليم بعمقها، وإن اقتصرت ذروة صــوته على المقــامات التي خلت من أرباع الصوت، مثل النهوند والعجم والحجاز. أيضا، شابَ تأثر صوته بـ«الأبوا»، ضعف في قفلات الطـرب وفي التحكم بعملية الانتقال بين المقامــات الشرقية، ما جعل ذكاء عبد الحليم الحاد، يتــدارك هذا النــقص، مبقيا على ســوية معيّنة في اخــتياراته الغـنائية، متجنبا فنون التلوين المقامي والقفلات التي برع فيها كـبار المغنين.
ضعف حنجرة عبد الحليم في المنافسـة الحــادة مع حــناجر مكــتملة، لم تُحــرجه أو تمنــعه حــتى، من التعــبير عن موقــفه من الغناء العربي الكلاسيــكي، لما غــنى: «يا ســيدي أمرك» محــاولا الــبرهنة من خلال غنائها، قدرته على أداء نماذج من هذا الغــناء المقامي، مع سخريته من هذه النماذج نفسها في آن باعتبارها «موضـة قديمــة» زالت، وزال زمنها.
النكهة العصرية المميزة إذاً، والحنان العميق الحزن، والرقة والليونة الأخاذّتي الجمال، سمات صوت عبد الحليم شبانة (غيّر اســمه من شبانة الى حافظ عرفانا بجميل حافظ عبد الوهاب، الإذاعي الذي فتح له أبواب الإذاعة) وتعبيراته، ضمن ظاهرة جديدة غير فردية، ولا تقــتصر عليه وحده، بل بدت عملا جماعيا ضم مطربين وملحنين وكتّاب أغنية أمثال محمد فوزي وهدى سلطان وكارم محمود ومحمد الموجي وكمال الطويل ومأمون الشناوي وحسين السيد ومرسي جميل عزيز وسمير محبوب (كاتب «صافيني مرة») ومحمد علي أحمد (كاتب «على قدّ الشوق») ومحمد حمزة، وحتى الشعراء صلاح جاهين والأبنودي. التغيير إذاً، شمل الألحان، وكلمات الأغاني والتوزيع الموسيقي في نتاج عبد الحليم حافظ، ما خلق فراغا كبيرا اثر رحيله، لم تتوفر اثره مواصفات موازية في أي ممن ترشحوا بعده لملء هذا الفراغ.
ترك حليم أغنيات فاقت الثلائمة أغنية، صمد معظمها حتى اللحظة من حداثتها بالمعنى العميق والشامل، فرادتها وتنوّعها.
الحب
لا يعنيني كمّ الأوكتافات التي حملها صوته، أو قــدرته على الوصول بقفلات الغناء الى خواتيمها الســليمة، كما لا أحب التــفرّج عليه في حفلاته الملتلفزة، ولا تســريحة شعره الغريبة، ولا عينيه الصغيرتين المبللتين بالمرض. أكره طريقته في قيادة الفــرقة الموسيقية فاردا يديه، موليا ظهره لجمهوره أو مصفــقا بتوقيــع مســتفز، زارعا خــشبة المسرح طولا وعرضا، ناشدا مــشاركة محبيه وحضوره، مصاحبته الغناء والتصفيق.
مع ذلك أحب عبد الحليم. لا أحد يعرف سر الحب. صحيح أن شكله ليس مُرادي في أشكال الرجال، ولا طريقة لبسه وغموض حياته العاطفية. سوى أنني ضحية قانعة من ضحايا صوته في أغنياته القديمة، وأفلامه الـقديمة، بابتسامته، وقامته القليـلة تلك، المائلة أبدا كما لو تستجدي جهة تتكئ عليها. قميصه الأبيض، باذلا جزء عنقه الأسمر لحنان ما. لمن يبذل جزء عنقه، ثم يستره كليا في «بلوفر» بقبّة عالية.
إذاً، الاختزال! اختــزال ما يمــثله لي حـليم. ليس الحب كلـه، بل ما يظــهر من عنقه في مشهده الجانبي، وما يختفي خلف صوته من عاطفة مُعاقة، ليس مقدّرا لها العيش.
بعــد ثلاثــين عـاما من رحــيله، تنـتابني طمأنينة الى خلو العــالم من الرومانسية. الرومانسية تجعـلك ترتكب حمــاقات ثم تنــدم على ارتـكابها. رحل حليم ورحلت الرومانسية مـعه، ورحل الغــناء العاطفي الذي يجـعلك تنعس. أحب صوته من مكان ما فيّ. اذا مــا تذكّر أحدنا قصــة ما تُدعى حــبه الأول، يعرف يقينا من أين يأتي حـبنا لصــوت عبد الحليم.
تسجيلاته القديمـة ترقد صامتة في مكتبتي، رائعة مع ذلك و«محجوزة» لذكرى أول قصة حب. لما أسمعها، تسرد لي أنباء الاشتعال ذاك، ويعنّ له معاودة الاشتعال هنا أو هناك.
اشتكى عبد الحليم لأكثر مما يجب. لوعة وشوقا وفراقا. وأسكته المرض.ربما يمكنني تصوّر هذا الجزاء بأنه الأفظع. ولكن في الحقيقة، إن الشيء الأفظع، هو عدم وجود الحب، لذلك نبحث عنه، ونطارده في صوت عبد الحليم، الصوت المائدة العامرة لعاطفة نعرف أنها غير موجودة. عبد الحليم لم يكن يعرف، لذلك بدا مُقنعا