خبر أصابني بالحزن تحويل مسرح معرض دمشق الدولي لقناة سما

سيفتقد السوريون مسرح «معرض دمشق الدولي» القديم، ومقاعده ذات المخمل الأزرق، وما لملمته من ذكريات. المسرح الذي احتضن حفلات فيروز في الستينيات، تمّت إزالته أخيراً، ليستبدل باستوديوهات لقناة «سما» الفضائيّة («الدنيا» سابقاً).
مرّ هذا الانتهاك مرور الكرام من دون أيّ ضجّة إعلاميّة. وبدأت «سما» بثّ جزء من برامجها من داخل المسرح، بعدما استباحت المكان، وعبثت في معالمه وأعادت إخراجه بديكورات حديثة. وكان نشاط المعرض قد توقّف بشكل نهائي صيف 2011، مع العلم أنّ أنشطته اقتصرت في السنوات الماضية على بعض الحفلات الفنيّة المتفرّقة.. وها هو يتحوّل الآن إلى مكان لفضائيّة خاصّة، في انتهاك واضح لتاريخه العريق. وكان ذلك الفضاء احتضن «المهرجان الفني الشعبي لمعرض دمشق الدولي» منذ منتصف الخمسينيات وامتدت فعالياته بزخم كبير حتى أواخر السبعينيات... بعدها انحدر المهرجان الفني بشكل تدريجي مع مرور السنوات لأسباب عديدة، منها الانحطاط الفني عموماً، وضعف العقليّة التي تسلمّت إدارته، ونمطيّتها.
«الدنيا» التي تأسست في العام ٢٠٠٥، كانت قد اتخذت من أرض مدينة المعارض الحديثة مقراً لها، لكنّها قررت الانتقال من مقرّها الكائن على طريق مطار دمشق الدولي، إلى قلب العاصمة، باعتباره أكثر أمناً. لا نعلم كيف اكتسب هذا التصرّف شرعية قانونية من الجهات الرسمية المسؤولة، وبشكل خاص مديرية المعارض.
هناك من برّر للقناة استخدام مسرح المعرض، لأنّ البلاد في حالة حرب، خصوصاً أنّ المكان مجمّد، ولا يشهد أنشطة حالياً. وقال آخرون إنّ الوقت الآن ليس وقت الحديث عن استباحة «الدنيا» للمعرض القديم، بعدما قُتل عشرات الآلاف، ودمّرت البيوت، وسرقت آثار عمرها مئات السنين.
لكن هل تدرك وزارات الثقافة والإعلام والسياحة خطورة «خصخصة» مكان عام تعود ملكيّته للشعب، واستخدامه في استثمار إعلامي لمؤسسة خاصّة، ناهيك عن كونه أحد أبرز مداميك الموروث الحديث لمدينة دمشق؟ وهل الموت الذي يحاصرنا يمنعنا حقاً من إعلان الفضيحة على الملأ؟ أم نكتفي بالسكوت وندفن قضية تمسّ الذاكرة الجماعية لسكان المدينة؟

مختبر فنّي لفيروز والرحابنة

كان المعرض محطة تسوّق ينتظرها السوريون من كل حد وصوب. تأسس في العام 1954 بدفع من رجالات الاستقلال من مفكرين وسياسيين واقتصاديين. وخلال مدة زمنية قصيرة استطاع أن يحقق انجازات على عدة أصعدة، منها استقطاب أسواق عربية وعالمية إلى حاضنة العرب دمشق.
ارتبط اسم المعرض بفيروز منذ بدايته حتى اليوم. وأطلّت فيروز على خشبة «معرض دمشق الدولي» لأول مرة بدعوة من فيصل الدالاتي مدير المهرجان لتحيي سهرتين منوعتين. كان ذلك في خريف العام 1959، و«سنة ورا سنة»، تكرّس المعرض حالة خاصة في حياة السوريين. أجاد الأخوان الرحباني في إعطاء هذا الحدث الفني والشعبي جهداً وتركيزاً، فكان أشبه بمختبر فني. نبشوا أجمل ما في الموروث الغنائي السوري وقدموه بأمانة موسيقية وبطريقة عصرية، فكانت تغزل أغنيات أبي خليل القباني على شفتي فيروز كالحرير الدمشقي.
احتضن المعرض صاحبة «قرأتُ مجدكِ»، وكان له الحظ في رؤية ٤ مسرحيات غنائية قبل غيره، «الليل والقنديل» (1963)، «الشخص» (1968)، «صح النوم» (1970)، «ناس من ورق» (1971). في العام 1959، كتب الناقد الموسيقي السوري نجاة قصاب حسن يقول عن إطلالة فيروز الأولى في المعرض: «الذي لم يتح له أن يشهد الفن في العالم المتحضر اكتفى بالمقارنة مع ١٨٠ ليلة على مسرح المعرض، تعاقبت فيها أحسن الفرق الشعبية في ألمانيا ويوغوسلافيا وبلغاريا والاتحاد السوفياتي والصين ورومانيا، وهي بلاد تعطي الفن الشعبي أضخم الإمكانيات، وخرج بالمقارنة ذاتها. والأربعة آلاف من شهود الليلتين خرجوا كلهم وهم أكثر إيماناً بالعبقرية العربية القادرة على أن تصنع معجزات حضارية من مادة خام لم يكن لها الوقت الكافي لتصقل في بلد لا يزال يعاني آثار الحكم الأجنبي الطويل المحطم للنفس والثقة بالنفس.» (هنا دمشق).

أول مرة.. آخر مرة

استقطب المهرجان العديد من الفنانين العرب (وديع الصافي، صباح، وردة) ونجوم من الساحة العالمية (جين مايسن، ديميس روسوس وغيرهم)، بالإضافة لعروض الرقص العالمية (فرقة باليه مسرح البولشوي الروسيّة). ولم يغفل دوره في إحياء الفنون الشعبية والتراثية السورية (فرقة التلفزيون للرقص الشعبي).
عبد الحليم حافظ زار المعرض مرات عديدة آخرها في العام 1976 وغنى «أول مرة تحب يا قلبي» وكانت آخر حفلة له قبل وفاته.
وتقول الأديبة والباحثة السورية ناديا خوست في وثائقي أنتجه التلفزيون السوري عن معرض دمشق الدولي: «نادراً ما تستمر المؤسسات الثقافية في سياق واحد. من ايجابيات المعرض انه استمر ما يقارب النصف قرن. بالطبع لم يكن المعرض دائماً في قمته، لكنه استمر. ترسيخ التقاليد هو ما يصنع الحضارة. استطاع المهرجان خلال نصف قرن أن يمتلك الصبر رغم الظروف السياسية المتغيرة في المنطقة لكنه بقي في سياقه».
مسرح «معرض دمشق الدولي» القديم هو حالة حضارية تكرّست عبر السنين، وتأصلت في حياة الشعب السوري وثقافته. في السابق لم تكن للجهات المعنية رؤية لكيفية الحفاظ عليه وتوثيق نشاطاته وفعالياته بشكل ممنهج وشامل، ولم يفكر أحد بتحويله لمتحف وطني من نوع خاص «سمعي/بصري» يحفظ الإرث الحديث للمدينة بمن مروا عليها. واليوم كان المسرح القديم أول ما اشتهته إحدى المؤسسات الخاصة لإعادة التأهيل. ويبقى سؤال في رسم المستقبل: في ظل التدمير الممنهج للمعالم الأثرية والتاريخية في كل المناطق السورية، هل يكون المعرض الحجرة الأولى في سياسات «الإعمار والبناء» التي تُرسم وتُحاك في البلاد وخارجها؟