شهرزاد..
المطربة المصرية
ذكرى الماضي الذي قضى..
وعبق الزمن الجميل الذي بقى
شهرزاد المطربة المصرية..
سمراء النيل.. المنقوشة في الحجر
مطربة عصماء مترفعة في وداعة.. واثقة من نفسها، كما لو كانت فعلاً نقشاً في حجر كما ذكرت قبل قليل.. متعالية لأبعد الحدود، ولكن أي تعال.. تعالي الذين لا يسمحون لأحد بالتعالي عليهم.. عطاؤها ظلٌ دائم، وفنها مستديم، ومسيرتها واثقة.. لم تعرف في يوم من الأيام التبجح ولم يركبها الغرور.. لم تنوء في لحظة أو ساعة تحت انفعالات النفس، ولم تنتفخ أوداجها لأنها استمرت تغني أربعين عاماً بلا طبل أو زمر أو هتاف.. لحن لها عمالقة الملحنين من عبد الوهاب إلى رياض السنباطي إلى فريد الأطرش إلى أحمد صدقي إلى محمود الشريف، وغيرهم، من بقية عمالقة ذلك الزمان الوردي الزاهر المتنوع والدقيق والمدروس بكل عمق في كل ما قدم وسمعناه في تلك السنوات الغابرات الساحرات.
من شيمة شهرزاد التواضع، ونكران الذات، مع أنها وردة زاهرة وسط كثير من الأشواك.. مقيمة على حب الغناء، سخية فيه مضحية له، وأي إحساس إنساني أنبل من هذا الحب.
هذه هي شهرزاد، قد لا يعرفها كثيرون من إخواننا المغتربون هنا، أو حتى لم يسمعوا بها، ولكني آليت على نفسي، ومنذ زمن، أن أواصل إيصال هذه الرسالة الفنية السامية إلى كثيرين ممن يهمهم هذا المجال، وحتى من لا يحبون، قد يحبون مستقبلاً، أن يعرفوا الكثير عن تلك الحقبة الغنائية الزاخرة في القرن العشرين بكل ما له.. وسأحاول أن أكتب مستقبلاً عن أعلام الفن والغناء من العراق وسوريا وتونس ولبنان وبقية أقطار العرب. لكن مصر والنجوم الذين تلألئوا في سماءها ظلوا محفورين في ذاكرتنا، واشتهروا أكثر بكثير من زملائهم وزميلاتهم في بقية الدول العربية لأن مصر كانت ولا زالت وستبقى "هوليود الشرق".
هل تصدقون أن "شهرزاد" هو اسمها الحقيقي، نعم، ولهذا الاسم قصة، فأثناء حمل والدتها بها قرأ أبيها للمرة الأولي حكايات ألف ليلة وليلة، وأعجب بها جداً، وتمنى على إثر ذلك أن يطلق على المولود القادم اسم شهرزاد؛ إن جاء أنثى، أو شهريار إن جاء ذكراً.. وحين وضعت الأم بنتاً أطلق عليها اسم شهرزاد. والتي غدت حين كبرت، صوت يأتي من أعماق مصر، وهو صوت يمتاز بعمق الأصالة والقوة والإحساس.. صوت منح ملايين المستمعين العرب المتعة السمعية، صوت مشحون مملوء يتدفق طرباً حتى الترنح.
ورثت عن أبيها حب الغناء وعشقت أم كلثوم وأغانيها، وكانت تردد تلك الأغاني على مسمع من زملائها في المدرسة، وتلك كانت بدايتها في الغناء، وأهم أسباب تعلقها بعالمه فيما بعد.. كانت شهرزاد حريصة كل الحرص على متابعة الحفلات الشهرية لأم كلثوم.. وفي أحد الأيام دعتها زميلة لها في المدرسة لحضور حفلة عيد ميلادها، وكانت والدة صاحبة الحفلة ممثلة.. وحضر وقتها كبار الفنانين، أنور وجدي وزوزو شكيب وزكي طليمات وغيرهم.. وفي الحفلة غنت شهرزاد رائعة أم كلثوم "يا طول عذابي" وبعد أن أبدعت في غناءها عرض عليها المخرج المسرحي زكي طليمات تمثيل وغناء دور البطولة في أوبريت "العشرة الطيبة" على مسرح الأوبرا ـ في حينه ـ مع كارم محمود وحسين رياض، ورفض والدها في البداية فكرة احترافها الفن، لكن طليمات نجح في إقناعه، وحضرت أم كلثوم حفلة الافتتاح وأعجبت بصوتها واستدعتها بعد نهاية العرض لتحيتها، ووقفت شهرزاد أمامها مبهورة.. وتشاء الأقدار أن تكون أم كلثوم السبب في زواجها من محمود رمزي، عازف التشيللو الأول في فرقتها، وكانت شهرزاد قد تعرفت عليه في معهد الموسيقى العربية وطلبت منه أن يأخذها لتحضر بروفة من بروفات سيدة الغناء العربي، وفعلاً أخذها معه مستجيباً لطلبها، وقدمها لأم كلثوم التي كانت قد رأتها من قبل كما أسلفنا، لكن محمود رمزي قدمها بقوله: هذه شهرزاد، وهي مجنونة بك يا ست الكل، فقالت أم كلثوم: أعرفها وسيكون لها مستقبل فني كبير، لماذا لا تتزوجها.. رد رمزي ضاحكاً: موافق، بشرط أن تغني في فرحنا، وفعلاً حدث ذلك، واحتفلوا بالفرح في بيت الشاعر أحمد رامي، وغنت لهما أم كلثوم "افرح يا قلبي لك نصيب، وأنا في انتظارك" وكانت ليلتها شهرزاد أسعد عروس لأن أم كلثوم أحييت فرحها وليلة زفافها.
في بداية حياتها الفنية قدمت مجموعة كبيرة من الأوبريتات مثل "العشرة الطيبة" و"ليلة من ألف ليلة" وغيرهما.. والصوت الذي يجيد الغناء فن الأوبريت لابد أن يكون صوتاً قوياً ومدرباً على الغناء الشرقي والغربي، ولذلك التحقت شهرزاد بمعهد الموسيقى العربية لدراسة السولفيج، على يد الفنان الإيطالي "بروتيتي" عازف التشيللو في فرقة الأوبرا المصرية، وعبره تعرفت على الشيخ بدوي ناصر الذي علمها عبر تدريباته الصوتية كيف تبحر بأدائها أعلى الصوت وأسفله.
أهم المحطات الغنائية في مشوارها الفني:
? المحطة الأولي:
تعرفت شهرزاد على العملاق رياض السنباطي قبل احترافها الغناء عبر شقيقها شفيق، الذي كان يدرس العود في معهد الموسيقى العربية، وكان صديقاً للسنباطي، ويومها غنت له "النوم يداعب جفون حبيبي" وهي من روائع ألحانه لأم كلثوم، كما غنت له "يا طول عذابي" وهي أيضاً من الروائع التي لحنها لأم كلثوم، فأعجب بصوتها ووعدها مؤكداً أنه سيلحن لها عندما تكبر.. وكان أول لحن قدمه لها السنباطي "أول ما جيت في الميعاد" كلمات حسين السيد، وبه تقدمت لامتحان الإذاعة ونجحت بهذا اللحن وبدأ اسمها يشتهر ويتردد في الوسط الفني.. وتوالت ألحان السنباطي لها إلى ما يزيد عن عشرين لحناً، منها "اديني من وقتك ساعة" و"حكاية المنديل" و"كدابين"، لكن رائعة الروائع السنباطية لشهرزاد كانت "يا ناسيني" ومقدمتها الموسيقية بمثابة سيمفونية شرقية عزف خلالها السنباطي خلف شهرزاد وانفرد بصولو منفرد على العود. كانت تلك النغمات تضيء وتبرق وبعد النجاح المدوي الذي أحدثته "يا ناسيني" طلب عبد الوهاب أن يراها عن طريق زوجها عازف التشيللو محمود رمزي، وبالفعل ذهبت إليه وقابلته ولحن لها أغنيتين "في ظل الورد" و"في القلب هنا" ونجحا معاً، وبعدها لحن لها فريد الأطرش أغنيتين كذلك هما "أديني ميعاد وقابلني" التي غناها هو أيضاً كما لحن لها أغنية "خللي بالك مني".
? المحطة الثانية:
كانت من ألحان محمود الشريف، وهو صاحب اللحن الأول الذي غنته في حفلة على الهواء من مدينة كفر الشيخ في أوائل الخمسينيات وهو لحن اشتهر جداً "بعتلك جوابي وليه ماجاني الرد"، كما لحن لها "أحب اسمك" و"أحلى الذكريات" وغيرها. ثم التقت بالملحن القدير أحمد صدقي الذي لحن لها الكثير من الأغنيات التي مست أوتار القلوب مثل "سألت على البخت" و"جاني مرسالك" و"3 وصفات" و"في قلبي حكاية".
? المحطة الثالثة:
كانت عبر ألحان آخر جيل العمالقة، كمال الطويل وبليغ حمدي وعبد العظيم محمد ومنير مراد ومحمد سلطان وحلمي بكر..
لم تقدم شهرزاد ولم تشترك في أفلام سينمائية، بالرغم من ظهور صوتها في مجموعة من الأفلام مثل أفلام زينب وأمير الدهاء وأمير الانتقام.. وعذر شهرزاد في ذلك انشغالها الشديد بالمسرح الغنائي.. وتعليقي أنا على ذلك: يا ريت يا ريت اعتنت شهرزاد بقوامها أكثر وقللت من مكياجها، وعجبي كل العجب أن أحداً لم يتحدث معها في هذا الشأن من مدير أعمالها إلى زوجها إلى كل العظماء المحيطين بها.. شهرزاد لو كانت قد فعلت ذلك لكان لها شأن آخر في مسيرة الغناء العربي.
أطلق عليها لقب "مطربة الثورة" ولهذا اللقب قصة أوردها الرئيس السادات في كتابه "صفحات مجهولة" حيث دعيت للغناء قبيل الثورة في سلاح المشاة، وقبل صعودها على المسرح فوجئت بسحب الميكرفون من أمامها، فنزلت غاضبة، مما اضطر محمد نجيب الذهاب إليها ومراضاتها وأفهمها أنها ليست المقصودة، واستطرد يقول لها: يكفيك شرفاً أنك ستغنين أمام آلاف الضباط، وفعلاً ظهرت من جديد على المسرح واستقبلها الضباط بعاصفة من التصفيق.. وحكاية سحب الميكرفون التي لم تنتبه لها شهرزاد كان وراءها أسباب سياسية، فحيدر باشا قائد الجيش آنذاك أمر بعدم إذاعة الحفل على الهواء من الإذاعة المصرية بسبب صراعه نع مجموعة الضباط الذين كانوا ضد القصر ومن بينهم نجيب.
والحفلة التي لم تنساها المطربة شهرزاد حفلة تونس التي أحيتها أمام الحبيب بورقيبة وزوجته، وكان المسرح الذي غنت فيه لا يتسع لأكثر من 8000 كرسي، لكن الجمهور الذي حضر فاق الـ 12000 وسهر بورقيبة إلى الساعة الواحدة صباحاً. ورغم أن عبد الحليم حافظ كان قد جاء إلى تونس قبل أسابيع ليحيي حفلة مماثلة، فلقد استأذنه بورقيبة في تمام العاشرة مساء وذهب لينام لأنه مريض.
ترفض شهرزاد رفضاً باتاً توزيع أغانيها القديمة. هي ترى أن التوزيع الجديد لا يضيف شيئاً إلى عراقة التوزيع القديم.
شهرزاد راضية تماماً عن كل ما غنته لأنها كانت تختار دائماً أغنيات لها معنى وهدف، وكل أغانيها كانت تختارتها بدقة وعناية.
هذه هي شهرزاد، ولو كانت غير شهرزاد لكانت أكثر بريقاً أمام الأعين، ولكنها تعتقد أن هذا بريق لا تكبر به ولا يمكن أن يعكس صورة أخرى لها مغايرة.. شهرزاد وحدها ظلت تقاوم الزمن وتقاوم الفن الرديء، وظلت راسخة القدم شديدة المراس، إنها فنانة مختلفة عن غيرها، لكننا لا نختلف أبداً في أنها من أقدر المطربات في الغناء وفي قهر الزمن وأنها عسل وسكر، عسل حبيبها زي العسل وغناؤها وصوتها وأدائها زي العسل.