جريدة الرأي
04/11/2012 9:46 م
حليم.. حضور دافئ وغامض وغياب غير مكتمل!!!
بين عبد الحليم حافظ وصورته مسافة كبيرة وشاسعة ومعقدة، فالقصة لا تتوقف عند عبد الحليم الشخص أو الأسطورة الفنية، ففي النهاية يمكن أن يعتبر النسخة العربية من فرانك سيناترا أو جاك بريل أو دومينيكو مودونيو، وليس مثل أم كلثوم التي تعتبر نسخة واحدة في التاريخ العالمي، الاختزال الحقيقي للثقافة والمزاج والذائقة العربية، قصة عبد الحليم في النهاية هي حكاية عصره، فالطفل اليتيم الذي بدت جميع الطرق موصدة تماما أمامه لدرجة لم يتمكن معها من التمتع بحياة طبيعية ولائقة، وبعد بداية مؤسفة لمسيرته الفنية في حادثة الإسكندرية الشهيرة حيث قابله الجمهور بالسخرية والاستهزاء لخروجه على تقاليد الغناء الشرقي المتبعة بصرامة ورتابة، وحتى وصل الاستهجان للإلقاء مخلفات صالة المسرح تجاهه، بعد ذلك وفي بضعة أشهر يتحول عبد الحليم إلى ظاهرة جعلت الجميع يتوقف للاستماع والتأمل. أسطورته محصلة التقاء حدثين، الأول ذاتي وهو موهبته ليس كصوت مميز وبغض النظر عن إمكانياته المحدودة، والثاني، موضوعي، وهو الثورة التي أتت كتغيير اجتماعي يحدث قطيعة بين عصرين، فالثورة أسست لشخصية جديدة، عصرية ومنفتحة، أنهت حالة من الشيزوفرينيا التي قامت بين النخبة التي تستمع لشوبان وبيتهوفن وبين الأغلبية التي تجد نفسها في أغاني أم كلثوم ومنيرة المهدية وصالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب، كان الوصول إلى الحل الوسط مطلوبا، وكان عبد الحليم هو الإجابة على ذلك. في ذلك لم يكن عبد الحليم وحده، فالشخصية الجديدة، الشاب الذي أمامه من العمر مرحلة واسعة ليكون تجسيد الثورة وإنجازاتها كان يمثل جيله، كان في الواجهة ولكن فريق العمل أطلق ثورة فنية موازية للثورة السياسية، كمال الطويل تحديدا، الملحن صاحب الرؤية الخاصة في الايقاع الموسيقي، حتى مع أم كلثوم لم يكن معنيا بالزخارف الموسيقية التي تتيح للمطرب أن يستعرض صوته، فالموسيقى لديه تستحق الالتفات فعليا، ليست مجرد ديكور للأغنية، وإنما كيان مستقل، وصوت عبد الحليم ليس تعبيرا عن المستبد، لا يحمل في داخله صفة الطغيان، إنه صوت متسع وغامض، يشبه الصوت الداخلي الذي يحمله كل إنسان في داخله ولا يعلم تقريبا من أين يصدر، يشبه صوت الأفكار الداخلية وأحلام اليقظة. بجانب الطويل كان محمد الموجي، ليس بنفس الميل للمغامرة أو تجربة الأشكال الجديدة، ولكنه استطاع أن ينوع خيارات عبد الحليم وأن يدفعه للأمام، الصديقين تآمرا فعليا لإدخال عبد الحليم للإذاعة، الطويل اضطر أن يتنازل وأن يقبل مطربا على غير قناعة مقابل أن تمرر اللجنة صوت عبد الحليم ليعتمد في الغناء الإذاعي، اليوم يمكن لكل من (هب ودب) أن يجد مكانا له على الإذاعات والانترنت، في زمن عبد الحليم كان ذلك يحتاج إلى معجزة. كانت الثورة تتقدم وتسرف في منح الوعود للناس، كانت تحتاج إلى صوت، أم كلثوم كانت تجاوزت التأثير إلى التخدير، وكان عبد الحليم مقنعا وهو يغني للأحلام (تماثيل ع الترعة وأوبرا) و (قلنا ح نبني وأدي احنا بنينا السد العالي) و (يا أهلا بالمعارك) ، السبب ببساطة أنه كان حالما ومقتنعا بما يغنيه، ولكنه واجه سؤال صلاح جاهين بعد النكسة، هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، كان جزءا من المشهد العام، أو كان في قلب المشهد، هذه تفاصيل غير مهمة، ففي النهاية كان عليه أن يواجه واقعا جديدا. كانت الصدمة في هزيمة حزيران تلقي بظلالها على كل شيء، وبينما اندفعت قلة من الناس تتساءل عن الأسباب وتحاول أن تحاكم باعة الأوهام فإن الآخرين كانوا يحاولون النسيان، الدخول في نوعية جديدة من الغيبوبة، وكانت الأغنية أيضا متواجدة، وكان عبد الحليم ودون وعي أيضا يشترك في عملية تغييب واسعة للوعي، شريكه كان بليغ حمدي، ملحن عبقري استطاع أن يترك تراثا ما زال يخضع لعمليات الاجترار والسطو من قبل عشرات الملحنين، الموسيقى الجديدة كانت مشاكسة وجريئة، يمكنها أن تحرك الرقص والنشوة، تتلاعب بالحالة الشعورية، في بعض الأغنيات الطويلة كانت الذروة تنطلق في الوقت الذي يتصور فيه الجميع أن الأغنية انتهت، وبعد ذلك يبدأ المهرجان الذي يتخصص فيه بليغ وحليم، الجمل الموسيقية تندفع مثل الألعاب النارية في السماء، لا صوت يمكنه أن ينازع عبد الحليم، كل الموسيقى التي تلت ذلك كانت تنويعات على مرحلة حليم – بليغ، ولكن الذوق العام أخذ يتغير ويطرح مشكلة أخرى أمام عبد الحليم، الكلمة نفسها لم تعد مقنعة للمستمعين، إنها لهجة بيضاء عابرة للطبقات، والطبقة الوسطى التي مثلها عبد الحليم لم تعد تستطيع أن تحتفظ بمكانها، في الوقت نفسه كان الشاعر الجديد عبد الرحمن الأبنودي يأتي بأغنيات مختلفة من بيئة الصعيد، في بداية السبعينيات كانت كلماته بصوت محمد رشدي تحدث مفاجأة كبيرة في الأغنية المصرية، وكان عبد الحليم يحمل في داخله ذكاءا فنيا، استولى على الأبنودي واستطاع أن يدفع نفسه للمقدمة مرة ثانية، ولكن بليغ الشريك الذهبي كان يبتعد عنه، وكانت الأذواق تتغير بصورة أتاحت لوردة أن تتقدم في المنافسة مع عبد الحليم، ولكن الأخيرة كانت محدودة في خيارات صوتها وليس إمكانياته بالتأكيد. أعاد عبد الحليم في النهاية اكتشاف الموجي، مع قارئة الفنجان أحدث تحولا كبيرا في القصيدة المغناة، كان يعطي دفعة للشعر الجديد ونجمه نزار قباني، لم يكن أحد يستطيع أن يتعامل مع هذه الخطوة سوى عبد الحليم حافظ، ولكن الوقت لم يكن كافيا ليعيد تجديد تجربته عبر محطة القصيدة التي كانت وصلت إلى نهايتها بالنسبة له، فالمرض الذي استوطن جسده منذ الطفولة كان أنجز الكثير في جسده المنهك أصلا تحت ضغط العمل المكثف والخوف الذي بقي يحمله عبد الحليم من الوقوف أمام الناس، ففي كل مرة كان يشعر من داخله، ويشعر الناس أيضا، أنه يقف للمرة الأولى، أنه يقدم شيئا جديدا حتى لو لم يفعل شيئا سوى أن يعيد نفس أغنياته القديمة، بقي يحمل قدرته على أن يكون صادقا، وعلى الرغم من أنه استغل كثيرا ليس من قبل بعض أصدقائه الذين تحولوا إلى المتاجرة به والكذب عليه وباسمه إلا أنه بقي صادقا أمام نفسه، وكان ذلك يكفيه. خمس وثلاثون سنة مرت على وفاة عبد الحليم وما زال حضوره دافئا، ومع أن مستمعيه وعشاقه اليوم لا يعرفون الزمن الجميل الذي يمكن أن يمثله عبد الحليم، ويعرفون أنه لم يكن جميلا بالفعل، إلا أنهم ما زالوا يشعرون بقدرة خاصة على الحلم والأمل بطريقة مختلفة مع عبد الحليم حيث يصبح الحزن والفرح لا شيء سوى ما يبقى من صدى التجربة الإنسانية التي لا تتوقف عند الغياب أو الموت، وإنما تبقى كأي حالة روحانية ممتدة في