أنوثة من برج النــــار
المصدر: مجلة نصف الدنيا
بقلم: منير عامر
"قد تلمع أنوثة برج النار لبعض الوقت، لكنها ستدفع الثمن في بقية الوقت "، عندما قال لي عبدالحليم حافظ تلك الجملة تعليقا علي المساعدة المادية التي كان يقدمها لامرأة كانت ذات بريق خلاب، ضحكت وسألته " هل ستتحول واعظا ؟ " ضحك ليذكرني أنه حفيد سيدي شبانة صاحب المولد الشهير في الحلوات.
وأتذكر أني قلت له " في حياتك أكثر من امرأة تنتمي أنوثتها إلي برج النار هذا " أجاب " حكاية برج النار هذه أنت الذي أطلقتها علي فاطيما أوفقير، تلك الغادة المترفعة اللعوب، أما السيدة نازلي التي دقت الباب وأخذت مافيه القسمة فعليك ألا تنسي أنها كانت زوجة لرجل كان يزلزل الدنيا فيما قبل هزيمة 1967".
وتذكرت أن كل ضوء في أي مكان كانت تدخله أي من المرأتين، كان هذا الضوء يتجه إلي أي منهما ليحكي حكاية أنوثة ذات صولجان وبريق. ولم يكن هذا البريق الأنثوي سوي ستارة علي رحلة حزن؛ تمتد من الطفولة إلي النضج، وصارت أي منهما هي محاولة اكتشاف لطرق تختفي منها ثمار العلقم الملونة، تلك الثمار التي تشعر بطعم مرارتها تحت لسانها كلما جلست وحيدة. خصوصا بعد أن جاء زمان انطبقت فيه السماء علي الأرض لتنسحق كرامة كل من المرأتين، فإذا كان اسم الأولي هي فاطيما أوفقير فهي من تعيش الآن في منفي باريسي بعد سنوات طويلة قضتها في معتقل بصحراء المغرب حيث لم يعرف أحد لها طريقا، ومعها أبناؤها وبناتها، ورأتهم وهم جوعي أو وهم يتضرون بآهات المرض. وجاءها الفرج منذ عدة سنوات بعد أن هربت من معتقلها لتعيش في باريس منفية عن أبهة قصرها المغربي، هذا القصر الذي ذهبت إلي موقعه ذات مرة سرا، فشاهدت كيف تم محو القصر والمنطقة المحيطة به لتنمو أشجار لعلها ارتوت من دم الحكايات التي عاشتها فيه حين كانت ذات صولجان ومال. بل وشهد هذا القصر مسلسل إهانتها لزوجها الجنرال المرعب، حيث لم يكن يجرؤ علي الدخول إلي جناحها وقت أن كانت تستقبل عشيقا لها.
عندما أتذكر تلك التفاصيل أكرر لنفسي " البدايات لماذا تختلف بوحشية عن النهايات؟. وأواصل الهمس للنفس ؛ آه من حياة القصور وما تحتويه من بلاوي تكاد أن تتطابق تماما مع بلاوي العشوائيات المتناثرة في أرجاء الكون، حيث لا يوجد بلد دون عشوائيات، فكما أن هناك قمامة تخرج من البيوت، فهناك قمامة أخري مكونة من بشر يتم الاستغناء عنهم وليس لهم مكان. وقد تتطابق المرارة التي يعيشها أهل القمامة المستغني عنهم مع المرارة التي عاشها ويعيشها بعض من سكان القصور".
ضحكت من نفسي هامسا " يبدو أني لم أكن أتهم عبدالحليم وحده وهو يحكي عن فاطيما أوفقير أو نازلي حرم مدير مكتب المسئول الكبير فيما قبل 1967، لم أكن أتهمه بأنه قد تحول إلي واعظ إلا وأنا أري في أعماقي مشروع واعظ صغير "
فكرت في فاطيما أوفقير التي لم تكن تهتم إلا بأن تقضي الليل في الرقص والغناء، وتقضي النهار بصحبة مصممي الأزياء والمجوهرات، وتنتظر مجهولا ينقذها من أعماقها المزدحمة بتوتر الحيرة، منذ أن كانت طفلة في مدرسة للراهبات الفرنسيات، ثم قضاءها لبقية أيام طفولتها وهي مجبرة علي أن تعيش بأوامر من الراحل الطيب الذكر الملك محمد الخامس بصحبة بناته، ثم نضجها كأنوثة ذات ذكاء خارق لتتلقي قرارا من الملك الحسن الثاني بأنها سوف تصبح زوجة لأهم ضابط عنده وهو الجنرال محمد أوفقير.
وقد لا يعرف الجيل الحالي عن الجنرال أوفقير كثيرا، ولكن جيلي يعلم تماما أن الشائعات حاصرت الرجل ورسمت تاريخه، وأكبر شائعة انتشرت عنه هو اختطافه لمناضل مغربي اسمه المهدي بن بركة ثم قتله بدم بارد، وأخفي ملامح الجريمة بقدرة هائلة. وكانت الوقائع التي سمعتها عن هذا الجنرال وزوجته ــ ومصدرها الفنان عبدالحليم حافظ، وطبيبه الشخصي د. هشام عيسي ــ كانت الوقائع لغرابتها مذهلة. ويكفي أن أحكي فقط عن محاولة أوفقير قتل الملك الحسن نفسه، وكيف نجا الملك من المحاولة. وكيف نجا أيضا عبدالحليم من الموت المؤكد حين طالبه ضباط الانقلاب بأن يلقي بيان الثورة ضد الملك، فرفض الفنان المصري الكبير، وفاء للملك الذي أكرمه بعلاجه في أرقي مستشفيات العالم في الوقت الذي لم تكن ثروة عبدالحليم أو إمكاناته تتيح له كل تلك المحاولات لإنقاذ حياته من آثار البلهارسيا التي أذابت الكبد في التليف.
أما حكاية السيدة نازلي فقد رأيتها هذا الأسبوع وهي ترجو طبيب قلب مشهور أن يكتب لها أدوية أقل سعرا من الأدوية المفروض أن تتناولها بعد ثلاث عمليات في القلب. وتذكرت أن عبدالحليم ظل يحسن إليها طوال الفترة الواقعة بين 1967 بعد أن صودرت كل ممتلكات زوجها، إلي أن رحل الرئيس جمال عبدالناصر، ثم جاء انتصار أكتوبر ليبحث لها عبدالحليم حافظ عن حق بسيط وهو تحويل الدور الذي تسكنه بالزمالك إلي بنسيون، لتنفق علي حياتها. وقد حدث ما توسط فيه عبدالحليم وساعدها بقليل أو كثير من المال.
واندهشت حين وجدتها تسأل عن أدوية رخيصة، ودققت النظر لملامحها لأجد خطوط الشيخوخة واضحة وصريحة مع انكسار النفس، وهو أكبر ما يصيب الإنسان، وتساءلت:
لقد كانت تلك المرأة تملك طاقة هائلة علي تحريك الأمور. وكانت لا تكف عن تكديس المال والهدايا، وتدير بيتها كل مساء كفترتين، فترة تستقبل فيها أصحاب الحاجات والطلبات، وفترة أخري تستقبل حبيب القلب المرهق، ليلهو قليلا ويشكو كثيرا وينفذ لها ما تأمر به، تماما كما كان حالها في أول أيام الثورة حيث كان لها ضحية سابقة، وكانت تقسم ليلها أيضا إلي فترتين، فترة للهو مع أحد رجال الصف الثالث من رجال يوليو، وفترة تجمع فيها مصالح من يسعون إلي إنهاء تلك المصالح.
من الغريب والعجيب أن كلا من المرأتين - المصرية والمغربية - كانت لها علاقة مع عبدالحليم حافظ. ومن الغريب والعجيب أن ظروف أي منهما كانت متشابهة، فكلتاهما عاشت زمنا تعيسا بلا حدود.
فالمصرية نازلي لم تصعد إلي قمة المجتمع إلا بعد أن تزوجت لبعض من الوقت علي عضو عجوز من نجوم أحزاب ما قبل الثورة، ولأنها كانت في السادسة عشرة ولم يعش الرجل معها سوي أربعة أعوام، وتركها أرملة في عمر العشرين، لذلك استطاعت عبر نادي الجزيرة أن تلفت أكثر من فارس من فرسان الصف الثالث أو الرابع من ضباط يوليو، وكان لهؤلاء الفرسان في تلك الفترة من العمر وهج شديد. وكان لبعض منهم مكانة الرجل الرابع أو الخامس في هيكل الدولة المصرية الوليدة. وكان أحدهم هو من وقع في هوي تلك السيدة التي عاشت سابقا في القمة بقيمة كنزها الوحيد المركز في أنوثتها، واستطاعت توظيف تلك الأنوثة من الإمساك بخيوط التقرب من أهل السلطان كي تظل علي سطح المجتمع.
وعندما اكتشف أهل الحكم في الفترة الناصرية كيف عبثت هذه السيدة بذلك الرجل، تم إقصاؤه بعيدا. ولكن أحدا لم يقترب منها بأي سوء، إلي أن استطاعت أن تعود من جديد لترسم خيوط شبكتها الأنثوية علي واحد من الفنانين لتتزوجه، وتتقرب من خلاله إلي مكتب مهم جدا في مصر المحروسة.
ولم تمر سوي أيام بسيطة حتي استطاعت أن توقع سكرتير المسئول الكبير في شبكتها، لتحصل علي الطلاق من زوجها الفنان كسير الجناح ولتتزوج من رجل النفوذ المحتل لموقع السكرتير للمسئول الكبير. وظلت تتوغل وتتوحش في تكوين الثروة إلي أن وقعت هزيمة يونيو لتجد نفسها خارج كل ما امتلكت، وليجد زوجها نفسه خلف القضبان.
وعندما بحثت عن من يستطيع رعايتها في وقت أزمتها الطاحنة، لجأت إلي عبدالحليم حافظ الذي يخرج لها بعضا من النقود كي تعيش دون أن تمد يدها في الشارع، بعد أن ضاع النفوذ،وبعد أن باعت كل الحلي والمجوهرات التي كانت تخبئها في ثلاجة الطعام.
ولن أنسي قول عبدالحليم وهو يؤكد أن الدنيا ليست إلا ملجأ كبير، يعيش فيه العديد من الرجال والنساء وهم لا يعلمون متي تهبط عصا المشرف الملجأ لتمزق اللحم الحي، إما بشكل ظاهر كما في ملاجئ الأيتام، وإما بشكل خفي. ومن يعرف تفاصيل حياة عبدالحليم حافظ سوف يري كيف كانت الدنيا بالنسبة له ليست إلا ملجأ هائل ومتسع. والكل في هذا الملجأ يتصارع من أجل شيء ما. وهذا الصراع ليس رغبة في الحصول علي ذلك الشيء، ولكن كان بهدف الهرب من ألم ما.
وكان من الطبيعي أن يحكي عبدالحليم عن كل من المرأتين كضحايا.
وحين قلت له إن أيا منهما كانا من مواليد برج النار، فرح بالكلمة كثيرا، وراح يؤكد أن النار توجد دائما في أعماق المرأة بمرارة أكثر ولكنها تخفيها بقدرة أكبر.
طفولة فاطيما أوفقير - كما جاء في مذكراتها - كانت رحلة من الارتباك، فهي تعيش بالقصر الملكي حسب أوامر الملك محمد الخامس كوصيفة وشقيقة لابنته. وهي تشتاق إلي حيث تعيش أمها وأبيها من أبناء الجبال. ولكن أشواقها لأسرتها الفعلية لا ترويها تلك الزيارات الخاطفة التي تستأذن فيها القصر الملكي فيسمح لها بزيارة والدها ووالدتها.
وفوجئت بقرار ملكي بتزويجها إلي الجنرال أوفقير، هذا الذي كان يخاف أي كائن في المغرب من سماع اسمه، فهو واحد من المدربين علي التلصص والتجسس، وتعذيب الأسري، وعاشت معه لتنجب أطفالا وتمثل دور المرأة السعيدة التي تري الحياة هي أحزمة ذهبية يأتي لها من له طلب أو رجاء. وعندما تم اكتشاف خيانة زوجها للملك منحها الحسن الثاني فرصة لتنكر جريمة الزوج، ولكنها أصرت علي التمرد، فكان نصيبها السجن والنفي والعذاب. وكأنه كان عليها أن تدفع ثمن اللهو وعدم تقدير ظروف الغير، وتدفع أيضا ثمن إحساسها بأنها فوق الجميع فصارت تحت أقدام الجميع. وتعيش الآن في المنفي تتلقي الصدقات من بعض أثرياء القصور الخليجية
أما نازلي فهي تعيش الآن في منزلها ذي الأربع عشرة غرفة لتديره كبنسيون، وهي من قابلتها هذا الأسبوع في عيادة واحد من أطباء القلب المشهورين، وكانت تتوسل إليه أن يكتب لها علي أدوية أقل ثمنا من الأدوية المقررة لها بعد إجراء ثلاث عمليات بالقلب.
قرأت الفاتحة علي روح عبدالحليم الذي كان يؤكد لي أن أنوثة برج النار قد تلمع بعضا من الوقت، وتدفع الثمن بقية الوقت.