حفلات «أعياد الربيع» إبداع ومنافسة.. و«معارك»
شريف عارف ٢٠/ ٤/ ٢٠١٣
ربما تركت حفلات الربيع على مدى أكثر من نصف قرن ذكريات عميقة فى نفوس كل منا. هذه الحفلات شهدت منافسات شرسة، وإبداعا غير مسبوق، إلا أنها لم تخل من «المعارك» فى بعض الأحيان سواء كانت سرية أم علنية.. الكل يتسابق من أجل إرضاء الجمهور.
تحولت المنافسة بين حزبين رئيسيين هما حزبا «حليم» و«فريد»، حاول كل منهما جذب أوسع قاعدة جماهيرية لفنه الراقى.
كان صاحب الحزب الأقدم هو الموسيقار الكبير فريد الأطرش، ملحن ومغنى رائعة «الربيع»، التى ارتبطت دوما بأعياد شم النسيم. فبرغم أن الأغنية كانت أوبريت كتب كلماته مأمون الشناوى، ولحنه فريد لفيلم «عفريتة هانم» عام ١٩٤٩، إلا أنها تعتبر الأغنية الأهم والأشهر التى قدمها فريد، وظل الطلب الأول لجمهوره فى كل حفلاته.
أما الحزب الثانى فكان حزب «حليم»، الذى اخترق العادات والتقاليد ليمثل جيل الشباب الحالم بالحب والثورة. شهدت العلاقة بين الحزبين الكثير من الشد والجذب -كما يقول الصحفى الشهير والناقد جليل البندارى فى كتابه معارك فنية- وهذا يعود إلى طموح الفتى الصاعد، عبدالحليم حافظ، الذى كان يحلم بالهيمنة على ساحة الغناء كلها. ولأن عبدالوهاب اختار فى مرحلة صعود المطرب الشاب الانزواء بصوته والاكتفاء بالتلحين له ولآخرين، مع تهميش أغلب الأصوات الرجالية الأخرى لنفسها فى هذه المرحلة، مثل عبدالعزيز محمود ومحمد فوزى، فإن عبدالحليم لم يجد أمامه سوى فريد الأطرش، المنافس الأول له، فحاول الدخول معه فى مواجهة شرسة وإزاحته بدعوى أنه غير مصرى ولا يستحق كل هذه الهالة من الضجيج والنجاح حوله. لكن الأطرش وجد من ينصره، ويسجل «البندارى» أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ساند فريد ومنحه أعلى الأوسمة، وطلب من حليم الكف تماماً عن محاولة الإساءة إلى مطرب كبير كان الزعيم يلقبه ويناديه بـ«الأستاذ فريد»!.
إلا أن عبدالحليم كان صاحب النصيب الأكبر خلال حقبة السبعينيات من حفلات شم النسيم وأعياد الربيع. وقد كان عام ١٩٧٣ مختلفاً، فدون مقدمات سقط عبدالحليم حافظ مغشياً عليه، بعد ٨٥ ساعة من البروفات المتواصلة استعداداً لحفلة أعياد الربيع فى عام ١٩٧٣.
العندليب الأسمر- الذى كان يعانى من أخطر مراحل رحلته المرضية- كان حريصاً على أن يقدم لجمهوره ٤ أغنيات جديدة، ولكنه أرهق نفسه فى بروفات الأغنية الرئيسية. فبعد سهر متواصل طوال ليالى شهر إبريل عام ١٩٧٣، وقف عبدالحليم حافظ يغنى «حاول تفتكرنى.. حاول.. حاول».. ولكنه لم يكد ينتهى من المقطع الثانى فى البروفة النهائية والكاملة، حتى سقط مغشياً عليه، وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة.. وأسرع إليه قائد الفرقة الماسية أحمد فؤاد حسن والموسيقيون لإسعافه.. ولكن حليم لم يستطع إكمال البروفة على بقية الأغانى القصيرة، واضطروا لنقله لبيته فى الزمالك.
وفى غرفة نومه المطلة على حديقة الأسماك، أخذ الدكتور هشام عيسى- طبيبه الخاص المرافق- يجرى له الإسعافات اللازمة خوفا من حدوث مضاعفات لحالة الإعماء نتيجة لحالة الإرهاق الشديد والمتواصل، خصوصا أنه كان لا يزال فى مرحلة العلاج، والمفروض أن يعود مرة أخرى إلى مستشفى أكسفورد بلندن فى أواخر الصيف لأخذ الجرعة الثانية من حقن المرىء.. لكن العندليب- بعناده الشديد- يقول غير ذلك.. ويؤكد أنه يعمل أقل من ساعات العمل المقررة التى قررها له الأطباء يومياً، بألا تزيد على ست ساعات، وقد طلب الدكتور ماكيس- الإخصائى البريطانى- تسجيل تلك التطورات للحالة والمضاعفات فى تقارير أسبوعية، حتى يمكن على ضوئها مباشرة عمليات الحقن لدوالى المرىء، فى المرحلة القادمة للعلاج.
..ولكن ما هو الجديد الذى قدمه «العندليب» لجمهوره بعد غياب استمر أكثر من عام قضاه فى رحلته العلاجية؟ الإجابة كانت مجموعة من الأغانى القصيرة، التى لحنها محمد الموجى- بعد الصلح مع عبدالحليم- بأسلوبه الشرقى وهى: «رسالة من تحت الماء» من أشعار الشاعر الكبير نزار قبانى. أما القصيدة الثانية فكانت من أشعار الأمير عبدالله الفيصل، وهى «يا مالكاً قلبى»، وقد لحنها الموجى بطريقة «التواشيح»، وكانت هذه القصائد «عربون التصالح» بين الموجى وعبدالحليم إثر سوء التفاهم الذى ظلل العلاقة الفنية بينهما، وقد تدخل مجدى العمروسى- بوصفه صديق الطرفين- وأزال سحابة الصيف العابرة!
أما الأغنية الطويلة التى اعتاد «العندليب» أن يقدمها لجمهوره فى عيد الربيع فكانت فى هذا العام رائعته «حاول تفتكرنى» من كلمات محمد حمزة، وألحان الموسيقار بليغ حمدى، الذى وضع ألحانها بين المغرب وبيروت ولندن، واستمر إعدادها قرابة عامين، وأثناء وجود عبدالحليم فى لندن، كان يحتفظ معه بشريط كاسيت، عليه تسجيل اللحن بصوت بليغ حمدى، وكان ينتهز الفرصة لكى يحفظ مقاطعه، إلى أن ظهر اللحن فى صورته النهائية.