زمــــــــــــــن العندليـــــــــب... بقلم محمود الزيباوي / جريدة النهار اللبنانيه

زمن العندليب

جريدة النهار اللبنانيه
محمود الزيباوي
2013-04-20

ستة وثلاثون عاماً مرّت على رحيل عبد الحليم حافظ. على غير عادة، مرّت هذه الذكرى بصمت بعدما تجاهلتها الدولة المصرية بمختلف كياناتها الثقافية. رأى البعض أن ذلك يعكس انتشار ظاهرة "الأخونة" في البلاد، وعبّر البعض الآخر عن الحنين إلى "الزمن الجميل" الذي يختزله العندليب الأسمر بأغانيه الرومنطيقية وأناشيده الوطنية.
بدأ عبد الحليم مشواره في زمن أفول الحكم الملكي، وصعد سلّم المجد بسرعة قصوى في زمن الجمهورية. درس في قسم التلحين التابع لمعهد الموسيقى العربية، وعمل مدرّساً للموسيقى بعد تخرّجه، ثم ترك التدريس ليلتحق بفرقة الإذاعة كعازف على آلة الأوبوا، غير أنه عاد وترك العزف ليحترف الغناء، وانطلق باسمه الأصلي: عبد الحليم شبانة. ظهر هذا الاسم للمرة
الأولى في جداول مجلة "الإذاعة" المصرية في آذار 1951، ضمن حلقة من برنامج "ركن الأغاني الخفيفة" حيث أدىّ من كلمات محمد متولي وألحان عبد الحميد توفيق زكي أغنية "يا ساكن وادي الأوهام". تكرّر ظهور الإسم في هذا الركن في الأسابيع التالية، وتحوّل إلى عبد الحليم حافظ في حزيران حيث غنّى المطرب الشاب من كلمات إبرهيم رجب وألحان كمال الطويل أغنية "شكوى"، ونشرت المجلة في هذه المناسبة صورة له مع تعليق ينوّه بالأغنية الجديدة.
في صيف 1952، خلع "الضباط الأحرار" الملك فاروق، وأبعدوه عن البلاد بعد تنازله رسمياً لصالح ولي عهد الأمير أحمد فؤاد. شكّلت السلطة الجديدة مجلس وصاية على العرش، وأدار أمور الدولة "مجلس قيادة الثورة" المؤلف من ثلاثة عشر ضابطاً برئاسة اللواء محمد نجيب، ثمّ ألغيت الملكية، وأُعلنت الجمهورية في الثامن عشر من حزيران 1953. بعدها، آلت السلطة إلى البكباشي جمال عبد الناصر بعد عزل الرئيس محمد نجيب وتحديد إقامته في منزله. بين عهد وعهد، عرفت الإذاعة مرحلة انتقالية خضعت فيها إلى رقابة من نوع جديد. في عدد من مجلة "الفن" يعود إلى نهاية آذار 1953، نقع على خبرين مثيرين يعكسان أحوال تلك المرحلة بشكل ثاقب. يقول الخبر الأوّل: "ثار الموسيقار عبد الوهاب على لجنة التحكيم هذا الأسبوع وكاد يقدّم استقالته. وسر ثورة عبد الوهاب هي الرجعيّة والتزمّت التي يسير عليها بعض الأعضاء من أنصار الموسيقى الشرقية، ورفضهم لكثير من الألحان الممتازة. وقال عبد الوهاب: لقد أصبح الشرط الأساسي للمطرب لكي ينجح أمام اللجنة أن يغنّي ليالي وموالي". يأتي الخبر الثاني في السياق نفسه، ونصّه: "ألغت اللجنة جميع الأغاني العاطفية للمطرب عبد الحليم حافظ وعددها عشرون أغنية. وقد بكى عبد الحليم حافظ عندما علم بهذا القرار الذي قضى على كل
ثروته الغنائية".

أيامنا الحلوة

نجحت ثورة عبد الوهاب على لجنة الأغاني كما يبدو، وعلا صوت المجددين بقوة، وتبنّت الثورة تجاربهم وقدّمت لها الرعاية المنشودة. واصل عبد الحليم مشواره، وارتبط اسمه بأسماء ملحّنين من جيله، أبرزهم كمال الطويل ومحمد الموجي.
لمع اسم المطرب الصاعد وجذب منتجي الأفلام السينمائية، فظهر عام 1955 في أربعة أفلام، هي بحسب تسلسل تاريخ عرضها: "لحن الوفاء"، "أيامنا الحلوة"، "ليالي الحب"، ثم فيلم "أيام وليالي"، وفيه غنّى من ألحان محمد عبد الوهاب "توبة"، "انا لك على طول"، "عشانك يا قمر"، "شغلوني" و"إيه ذنبي إيه". كرّس نجاح هذه الأفلام اسم عبد الحليم حافظ، ودفعته إلى صف النجومية الأوّل، وبات رمزاً للأغنية الرومنطيقية الجديدة. تابع المطرب الشاب صعوده إلى قمة المجد في العام التالي، ولمع في فيلمين جديدين: "موعد غرام"، ثمّ "دليلة". اكتسح عبد الحليم السوق، وبات صوت الجيل الجديد، وقدّم له عبد الوهاب في فيلم "بنات اليوم" خمسة ألحان: "يا قلبي يا خالي"، "أهواك"، "ظلموه"، "عقبالك يوم ميلادك" و"كنت فين". أحرزت هذه الأغاني نجاحاً كبيراً وكرّست الشراكة بين الموسيقي المخضرم والنجم الشاب. عُرض الفيلم في عام 1957، وتبعه في العام نفسه فيلمان جديدان واصل من خلالهما عبد الحليم صعوده السريع إلى القمة، هما "الوسادة الخالية" و"فتى أحلامي". دخل عبد الحليم من حيث لا يدري في منافسة مع نجم كبير من جيل سابق بدأ مشواره السينمائي في مطلع الأربعينات، ونجح كما يبدو في هذه المنافسة. تحت عنوان "بين عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش"، كتبت مجلة "
الدنيا" الدمشقية في أيار 1957: "عُرض في بيروت بوقت واحد فيلمان جديدان أحدهما هو "ودّعت حبّك" لفريد الأطرش والثاني هو "بنات اليوم" لعبد الحليم حافظ، ويقول شبّاك التذاكر في دارَي السينما اللتين عرضتا الفيلم أن عبد الحليم حافظ سجّل تفوّقاً واضحاً على فريد للمرّة الأولى في تاريخ دور السينما في بيروت، وكانت حصيلة هذا الفرق ثلاثة آلاف ليرة
لبنانية دخلت إلى صندوق السينما التي عرضت فيلم عبد الحليم حافظ أكثر من الدار الأخرى".
في عام 1958، لعب عبد الحليم دور البطولة أمام صباح في "شارع الحب"، وظهر في العام التالي مع مريم فخر الدين في "حكاية حب". تضاءل عدد الأفلام في الستينات، وتعاظم حضور عبد الحليم على المسرح وفي الإذاعة. مثّل وغنّى في "البنات والصيف" عام 1960 ثم في "يوم من عمري" في 1961، وتبعه "الخطايا" في 1962. بعدها غاب عن الشاشة الفضية، وعاد إليها في "معبودة الجماهير" عام 1967، وكان آخر أفلامه "أبي فوق الشجرة" في نهاية الستينات. خلال تلك السنوات، جسّد عبد الحليم في عالم الغناء العربي تجربة حديثة اعتبرها حرّاس التراث خروجاً على الأصول وخيانة له. شكّلت التجربة امتداداً للخط الذي مثّله عبد الوهاب في الأربعينات والخمسينات، ونجد أبلغ تعبير عن هذا التقييم في إعلان تجاري لـ"محلات عبد الرزاق الموصلي" في دمشق عام 1957. يحتلّ هذا الإعلان العجيب صفحة من مجلة "الدنيا"،
ويتصدّره بالخط العريض عنوان يقول: "موسيقار الجيل محمد عبد الوهاب في روائع ألحانه القديمة: تسع أغان تقدمها محلات عبد الرزاق الموصلي إلى العالم العربي". ويليه نص يقول: "الموسيقار الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب لحّن وأنشد عدداً من أغانيه، عندما كان متربعاً على قمة المجد والشهرة. وقبل أن يهوي بالموسيقى الشرقية إلى ما آلت إليه الآن. تلك
الأغاني التي استمد قوته وشهرته من روعتها ونجاحها الذي طبق الآفاق ولا يزال المعجبون بفن عبد الوهاب الصحيح يرددون تلك الأغاني ويحنون شوقاً إليها، ويتمنّون لو يتحفهم عبد الوهاب اليوم بمثلها. ولكن حنجرة عبد الوهاب مع الأسف الشديد لم تعد تطاوعه، ولم تعد عبقريته الموسيقية تبدع أمثال تلك الألحان الشرقية التي حظيت بإعجاب الجمهور في العالم العربي كله. ومن المؤسف أن عبد الوهاب لجأ في ألحانه الأخيرة إلى "الإقتباس" عن الموسيقى الغربية والسمفونيات، فظل نجاح ألحانه هذه محدوداً جداً، إن لم نقل أنها فشلت".
تبنّى أحمد أبو الخضر منسي هذه المقولة في كتابه "الأغاني والموسيقى الشرقية"، وفيه شنّ هجوماً لاذعاً على عبد الوهاب الحديث وعلى المغنين المحدثين "الذين فازوا برضى جمهورنا"، وفي مقدمتهم عبد الحليم حافظ الذي "لهج بغنائه العامة، وتتبّعته قلوب الفتيات والنساء". مضى الكاتب في هذا الهجاء العنيف، وقال في وصف عبد الحليم: "أما صوته فصوت عادي فاتر بارد هزيل، عار من الحسن، فاقد اللين والحلاوة. صبغة واحدة تغلب عليه في كل أغانيه متشابهة الإيقاع. فلا صنعة ولا اقتدار، يطرحها عليك الهوينى فهو يتكلّم بصوته ولا يغنّي، كمن أدركه كلل وإعياء، إلا ما وُسمت به أغانيه من الخلاعة والتخنّث، كأغنية "أبو عيون جريئة" و"نار يا حبيبي نار". أما ما في هذا الغناء لعبد الحليم حافظ، وكيف اشتهر، وهو على ما نعلم ويعلم الخابرون المتذوقون للطرب، فلا عجب ولا تساؤل. فهو خلق عبد الوهاب. هو من صنعه وتخريجه وهو الذي أبرزه وآزره. ولسنا نعني عبد الوهاب القديم المبدع، وإنما ذهبنا إلى عبد الوهاب زعيم مدرسة الجديد الذي طعّم موسيقانا الشرقية الجميلة بالموسيقى الغربية. إلا أن عبد الحليم أصبح اليوم يجيد ويطرب في شيء من أناشيدنا الوطنية
وألحاننا القومية التي يصوغها له ولنا أمثال أغنية "المسؤولية" ونشيد "تحية جنودنا العائدين من اليمن".

الليل الحزين

هجا أحمد أبو الخضر منسي غناء عبد الحليم الرومنطيقي، وترفّق بغنائه الوطني، وذكر من أعماله الوطنية "المسؤولية" التي كتب كلماتها صلاح جاهين ولحّنها كمال الطويل، و"يا حبايب بالسلامة" التي وُضعت لمناسبة استقبال القوات المصرية العائدة من اليمن وهي من كلمات حسين السيد وألحان عبد الوهاب. رافق عبد الحليم عهد عبد الناصر بمختلف مراحله،
وغنّى له أعمالاً عبّرت بشكل مباشر عن تلك المراحل، وتشكّل هذه الأعمال الغنائية التعبير الفني الأبلغ عنها. ألّف عبد الحليم مع صلاح جاهين وكمال الطويل سلسلة من الأهزوجات الوطنية التي تغنّت بالثورة وثمارها، وغنّى من ألحان عبد الوهاب أعمالاً أشهرها "الله يا بلدنا الله" و"ذكريات".
ربح عبد الحليم معركة التجديد في الغناء، وظلّ غناؤه حياً في الوجدان المصري بعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على رحيله. في المقابل، بقيت أناشيده الوطنية على رغم تصدّع الحلم الناصري إثر هزيمة 1967، وحجبتها الإذاعات في عهد السادات، غير أنّ هذا الحجب لم يفلح في محوها من الذاكرة.
في زمن "الأخونة" يحنّ الكثيرون إلى عبد الحليم، وتتحوّل أعماله في شقيها العاطفي والوطني إلى ذاكرة حية تختصر "الزمن الجميل" الذي ولّى وانقضى. في زمن الشقاق والفتن، نستعيد أناشيده الحماسية ونتذكّر أغنية حزينة من شعر عبد الرحمن الأبنودي ولحن بليغ حمدي حاكى فيها الهزيمة: "عدّا النهار والمغربية جاية تتخفي ورا ظهر الشجر/ وعشان نتوه
في السكة شالت من ليالينا القمر/ وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جاها نهار ما قدرش يدفع مهرها/ يا هل ترى الليل الحزين/ أبو النجوم الدبلانين، ابو الغناوي المجروحين/ يقدر ينسيها الصباح؟".

زمــــــــــــــن العندليـــــــــب... بقلم محمود الزيباوي / جريدة النهار اللبنانيه 8WK2w

زمــــــــــــــن العندليـــــــــب... بقلم محمود الزيباوي / جريدة النهار اللبنانيه 8WK2w

عبد الوهاب وعبد الحليم عند وصولهما إلى بيروت في مطلع الستنينات.

زمــــــــــــــن العندليـــــــــب... بقلم محمود الزيباوي / جريدة النهار اللبنانيه LqDAj

وذكرى عندليبنا المحبوب يرحمه الله هذا العام لم يتجاهلها الاعلام المصرى سواء التليفزيون او الاذاعة فقدموا برامج كثيرة ومتنوعة عنه وتم عرض افلامه على القنوات المحلية والفضائية وايضا فى المجلات المصرية اكثر من مجلة اصدرت عدد خاص عنه مثل الكواكب واخبار النجوم فحليم يرحمه الله لاينسى ابدا وسيظل المطرب الاول فى العالم العربى كله

اسعدني مرورك يانهى.... أنا نزلت المقال كما هو ف الجريده... نعم الأعلام المصري خصوصاً والعربي عموماً... حاضر مع العندليب دوماً... لأن العندليب ماده خصبه وغنيه للأعلام....

» ماذا أقول عن عبد الحليم حافظ-بقلم فايزة أحمد-جريدة الأهرام-أول ابريل 1977
» برافو إبراهيم حفني.... بقلم الشاعر الكبير بشير عياد.. جريدة بوابة فيتو
» حليم تخونوه بقلم الاعلامى الكبير محمود سعد
» كلمة للتامل عن العندليب بقلم الدكتورمصطفى محمود
» حكايتى مع عبد الحليم بقلم الناقد الرياضى محمود معروف