على ذمة الناقد الفني طارق الشناوي الذي كتب في جريدة صوت الأمة يوم 28/5/2012 مقالا جاء فيه :
مرة واحدة فقط شاهدت فيها "عبد الحليم حافظ" كنت طفلاً حضرت عيد ميلاد عمي "كامل الشناوي" في منتصف الستينيات ولعله كان آخر أعياد ميلاده.. لم أتعرف وقتها علي كل الوجوه ولكني رأيت أيضاً "عبد الوهاب" ، "نجاة" ، "فايزة" ، "شكري سرحان" وبعد مرور السنوات عندما استرجعت ملامح الحاضرين تذكرت الملحنين الكبار "بليغ حمدي" ، "كمال الطويل" ، "رؤوف ذهني" والكتاب الكبار "موسي صبري" ، "سعيد سنبل" ، "أحمد رجب" ، "كمال الملاخ" ، "جليل البنداري"..
لم تلتصق عيني سوي بعبد الحليم كنت أتابعه منذ لحظة وصوله للبيت ( وبالمناسبة أصبح بعد ذلك هو بيت عمي مأمون ) إلي ذهابه إلي البوفيه المفتوح .. مرت عشر سنوات علي تلك الواقعة والتحقت في منتصف السبعينيات بكلية الإعلام وكنا نصدر وقتها جريدة "صوت الجامعة" - التي لا تزال تقاوم من أجل البقاء - وقررت وأنا في سنة أولي أن أثبت لطلبة السنة الرابعة أنني أستطيع أن أصل إلي نجم مصر الأول "عبد الحليم حافظ" وأخذت رقم تليفونه خلسة من أجندة عمي "مأمون الشناوي" ما أزال أتذكر أول رقمين "80" واعتقدت أنه بمجرد أن يسمع اسم "طارق الشناوي" واسم جريدة "صوت الجامعة" سوف يأتي هو للكلية لإجراء الحوار إلا أنني في كل مرة أصاب بخيبة أمل.. دائماً الأستاذ إما نائم أو في الحمام أو في بروفة أو مسافر أو علي سفر ولم ألتق بعبد الحليم.. مر عام واحد في عام 1976 وانتقلت للسنة الثانية في الكلية.. كنت أتدرب في سنة أولي في المدرسة الصحفية لمجلة "روز اليوسف" واستطعت الحصول علي صورة تجمع بين "عبد الحليم حافظ" و "أحمد عدوية" في إحدي الحفلات التي أقيمت في فندق الشيراتون حيث كان يغني مع "أحمد عدوية"؟!
الحكاية هي أن "عبد الحليم حافظ" كان حاضراً في الحفل وكان "عدوية" قد حقق وقتها شهرة عريضة بأغنية "السح الدح امبوه" أراد "عدوية" مجاملة "عبد الحليم حافظ" وغني "خسارة خسارة فراقك يا جارة" وقرر "عبد الحليم حافظ" أن يرد علي المجاملة بأحسن منها فصعد علي المسرح وغني خلف عدوية "السح الدح امبوه".. أخذت الصورة باعتبارها صيدا ثمينا وكتبت الواقعة وسلمتها إلي الكاتب الصحفي "عادل حمودة" وكان وقتها يشغل موقع سكرتير تحرير "روز اليوسف" وبذكائه الصحفي منح هذه الصورة والتعليق صفحة كاملة.. ظهرت المجلة في صباح يوم الأحد بعنوان "عبد الحليم حافظ" يغني "السح الدح امبوه" فوجئت بأن إذاعة "الشرق الأوسط" تقدم في المساء حلقة من أشهر برنامج فني وقتها وهو "الليل والفن والسهر" تقديم "محمد أنور" و "إبراهيم صبري" الحلقة كلها عن "عبد الحليم حافظ" وهو يكذب الواقعة ويؤكد أن الصورة خضعت لفبركة صحفية وأنه لم يلتق مع "أحمد عدوية" من قبل ولا يمكن أن يغني "السح الدح امبوه" التي كانت عنواناً للفساد الغنائي.. ولم يكذبه أحد حتي مصادري الصحفية رفضوا أن يشهدوا لصالحي.. ورحل "عبد الحليم" وحزنت عليه مثل الملايين وأتذكر أنني كتبت عنه تحقيقا صحفيا كان عنوانه "عبد الحليم حافظ والعرش" علي إيقاع عنوان قصة الكاتب الكبير فتحي غانم "زينب والعرش" وظلت واقعة غنائه "السح الدح امبوه" لا يصدقها أحد إلا أنه قبل عشر سنوات باتت هذه الحكاية كثيراً ما يرددها "أحمد عدوية" في أكثر من حوار تليفزيوني وتجد "حلمي بكر" يذكرها ويؤكد أنه كان حاضراً في هذا الحفل!!
مر زمن طويل ظلت الوقائع الثلاث التي كان "عبد الحليم حافظ" طرفاً فيها لم تغادر مشاعري ودائماً ما أسأل نفسي لماذا تعاطفت معه من أول نظرة شاهدته وأنا طفل ولماذا رفض أن يجري معي حواراً عندما التحقت بكلية الإعلام ولماذا كذبني عندما التحقت بسنة أولي "روز اليوسف"؟!!
نعم "عبد الحليم حافظ" يملك جاذبية خاصة مهما كان هناك من نجوم مشاهير فلا يمكن سوي أن تلتصق عينيك به تبحث عنه.. إنها منحة إلهية لا علاقة بجمال ولا إحساس الصوت لكنها تولد مع عدد قليل جداً من البشر وتختلف درجاتها ولكن من الواضح أن "عبد الحليم" كان يقف علي الذروة بهذا الفيض الإلهي.. كان الموسيقار الكبير "كمال الطويل" يقول لي كل النساء يحببن "عبد الحليم" بمختلف الأعمار من تراه حبيبها أو من تراه ولدها ولأن "عبد الحليم حافظ" رحل وهو في الثامنة والأربعين من عمره وكان حريصاً علي تقديم صورة ذهنية ثابتة له بأنه الشاب الذي لا يزال يبحث عن حبه هكذا أكدت السينما هذه الصورة الذهنية في كل أفلامه حتي تلك التي تراها في آخر أفلامه "أبي فوق الشجرة" لحسين كمال عام 1969 و كانت ملامحه أيضاً تؤكد ذلك والناس عادة لا تتعامل مع البطاقة الشخصية للفنان الممثل أو المطرب ولكنها تتعرف عليه من خلال ملامحه ونبضات صوته هكذا كانت النساء تشاهد وتعيش مع "عبد الحليم حافظ" وحتي اللحظة الأخيرة باعتباره فتي أحلامهن.. كان حريصاً علي أن يغني بإيقاع الشباب حتي رحيله عام 1977!!
في عام 1999 كان "عبد الحليم" بمقياس أيامنا بلغ السبعين سألت الموسيقار الكبير "كمال الطويل" لو كان "حليم" بيننا هل سيعتزل الغناء أجابني مستحيل أن يتوقف سيقدم "الفيديو كليب" بأسلوب "عبد الحليم"!!
أطلق "عبد الحليم" بأغنيته "يا سيدي أمرك.. أمرك يا سيدي" التي غناها في فيلم "ليالي الحب" أول احتجاج ساخر علي الأغنية التي كانت سائدة قبل الخمسينيات فهو مثلاً يقول "بحقك أنت المني والطلب" ثم يكمل "والله يجازي اللي كان السبب".. الكلمات كتبها "فتحي قورة" ولحنها "محمود الشريف" و"بحقك أنت المني والطلب" قصيدة شهيرة من تلحين الشيخ "أبو العلا محمد" غناها كل المطربين والمطربات وعلي رأسهم "أم كلثوم" تلميذة الشيخ "أبو العلا"!!
ويتابع السخرية بموشح أكثر شهرة وهو "بالذي أسكر من عرف اللما" ويضيف "كان في حاله جاتله داهية من السما" والمقصود ب "عرف اللما" الرائحة التي تخرج من الفم!!
وفي النهاية يقول "خايف أقول علي قد الشوق لا تطلع روحي" يقصد أغنية "علي قد الشوق اللي في عيوني يا جميل سلم" التي حققت في مطلع الخمسينيات شهرة غير مسبوقة!!
وهكذا كان المجتمع في الماضي يسمح بثورة ضد الجمود و "عبد الحليم" هو ابن شرعي لزمن التمرد!!
الملمح الثاني الذي التقطه هو علاقة "عبد الحليم حافظ" بالإعلام فهو لا يجري حوارا مع أي صحفي ينبغي أن يضمن أولاً أن الحوار يصب من خلال صحفيين يثق في ولائهم لصالحه.. لقد حكي لي الكاتب الروائي الكبير الراحل "محمد جلال" أنه التقي مع "عبد الحليم حافظ" في مطلع الستينيات في منزله وكان هناك صحفي ولكني سوف أحتفظ باسمه كان هذا الصحفي يعرض علي "عبد الحليم" بروفة حديث طويل أجراه معه في مجلة شهيرة أحد العناوين أغضب "عبد الحليم" فأطاح بالبروفة في جنبات الغرفة وتم تغيير الحوار عند نشره كما يريده "عبد الحليم"!!
نعم أحكم "عبد الحليم" السيطرة علي الإعلام وحكي لي كل من "محمد رشدي" و "محرم فؤاد" العديد من الوقائع ونشرتها قبل 9 سنوات علي صفحات "روز اليوسف" من بينها كيف كان "عبد الحليم" يملك سطوة في الإعلام مثلاً مقطع "أنا كل ما أقول التوبة ترميني المجادير" الذي يردده "محمد رشدي" في أغنية "عرباوي" التي كتبها "حسن أبو عثمان" ولحنها "حلمي بكر" تتوافق مع مقطع في أغنية عبد الحليم "علي حزب وداد جلبي" التي كتبها "صلاح أبو سالم" ولحنها "بليغ حمدي" لأنهما من الفولكلور استطاع "عبد الحليم حافظ" لعدة سنوات أن يمنع تداول إذاعة أغنية "رشدي" من الإذاعة المصرية.. وقال لي "محرم فؤاد" إن "عبد الحليم" عندما علم أنه سجل بصوته موشح "قدك المياس يا عمري" تأليف "مجدي نجيب" وتلحين "محمد سلطان" سارع بالاتفاق مع "محمد حمزة" و "بليغ حمدي" علي تقديم موشح "قدك المياس يا عمري"؟!
نعم "عبد الحليم" كان دائماً عينه وقبله وعقله علي ما يجري في الحياة الفنية يلتقط ما هو أجمل ويحيط نفسه أيضاً بقوة إعلامية تسانده.. "عبد الحليم" كانت له أيضاً أشواك يدافع بها عن نفسه؟!
قال "كامل الشناوي" عبد الحليم يكذب إذا تكلم ويصدق فقط عندما يغني.. من الممكن الآن أن أفهم من خلال تلك العبارة المكثفة لماذا أنكر "عبد الحليم حافظ" واقعة غنائه "السح الدح امبوه" وردد الإعلام وراءه التكذيب حتي شهود الواقعة الأحياء لم يستطيعوا أن يؤكدوها إلا بعد رحيله بأكثر من عشر سنوات!!
لم يكن "عبد الحليم" غزير الإنتاج وصل رصيده إلي قرابة 500 أغنية عدد من مطربي جيل "عبد الحليم" والسابق واللاحق له رصيدهم الغنائي يعد بالآلاف.. لكن هناك 30 أغنية في البداية لحنها له "عبد الرؤوف عيسي" و "أحمد صبرة" و "فؤاد حلمي" و "عبد الحميد توفيق زكي" وغيرهم كان يمنع إذاعتها لأنها لم تكن تعبر عن طموحه الفني.. بل إنه غني بعد "محمد قنديل" أغنية "يا رايحين الغورية" وبعد أن تم تسجيلها وجد النتيجة ليست في صالحه كان قادراً من خلال علاقته بكبار الإعلاميين علي منع تداولها.. إنه يمتلك مؤشرا للنجاح يوجه بوصلته الفنية له أينما كان ولهذا فإن أسلحته دائما مشرعة للدفاع عن نفسه.. إنه ابن الزمن ولو مرت به الأيام فلا شك أنه كان سيختار الأفضل ولن يتوقف عن حماية إبداعه بكل الأسلحة منذ اختياره الكلمة!!
كان "عبد الحليم حافظ" شديد الاعتناء بالكلمات واختيارها حتي لو اختلفنا مع عدد من أغنياته إلا أنه علي سبيل المثال يقول بكلمات "مرسي جميل عزيز" في أغنية في يوم في شهر في سنة "وعمر جرحي أنا أطول من الأيام".. أو هو يقدم تلك الصورة الشاعرية الرائعة لحسين السيد "كان فيه زمان قلبين الحب تالتهم".. أو مع مأمون الشناوي وهو يقول في أغنية في يوم من الأيام "أنا كل طريق لعيوني علمته بذكري معاك"!!
وأتذكر لمحمد حمزة في أغنية "سواح" تعبير "الليل يقرب والنهار رواح" ومع الأبنودي في أحضان الحبايب "رميت نفسك في حضن سقاك الحضن حزن"!!
الكلمة عند "عبد الحليم" كانت تشكل بالنسبة له رهاناً علي الأجمل والدليل أن الأغنيات الأولي لعبد الحليم كتبها "سمير محبوب" وبعد ذلك اكتشف "حليم" أن لدي "مأمون الشناوي" و "مرسي جميل عزيز" و "حسين السيد" في الأغنيات العاطفية و"صلاح جاهين" و"أحمد شفيق كامل" و"عبد الرحمن الأبنودي" في الوطنيات شاعرية أكبر ولهذا لم يكمل المشوار مع "سمير محبوب" الذي عاش بعد "عبد الحليم حافظ" خمسة عشر عاماً وهو يتساءل لماذا لم يكمل الرحلة مع "عبد الحليم حافظ" التي بدأها في أغنيات "صافيني مرة" و "تبر سايل" و "ظالم وكمان رايح تشتكي"..
وبعدها أخذ "محبوب" يشكو لطوب الأرض من ظلم "عبد الحليم" وتنكره لرفيق المشوار ولكن "عبد الحليم" ضحي بالصداقة من أجل الإبداع الأصدق والأجمل والأكثر عصرية سواء أكانت كلمة أو لحناً وكانت لدي "عبد الحليم" بوصلة قادرة علي أن تلتقط الجديد ويجمل به حديقته الغنائية ولهذا بعد العمالقة المبدعون "الموجي" و "الطويل" و "منير مراد" و "عبد الوهاب" ينضم إليهم "بليغ حمدي" لأنه كان يشكل بالنسبة له وقتها نبضاً موسيقياً مغايراً حتي لو أغضب ذلك رفقاء الطريق .
ولو امتد العمر بعبد الحليم حافظ فلاشك أنه كان سوف يتعاون مع عمار الشريعي وصلاح وفاروق الشرنوبي ومحمد ضياء الدين وزياد الطويل والراحل رياض الهمشري وصولاً إلي وليد سعد ومحمد رحيم.. ومع الشعراء من أمثال بهاء الدين محمد وفاطمة جعفر وعماد حسن وبهاء جاهين وجمال بخيت وأحمد بخيت وكوثر مصطفي والمبدع الذي رحل مبكراً عصام عبد الله.. لأنه يريد دائماً أن يتجدد مع الزمن ويلتقط ايقاعه تماماً مع مثل استاذه الاول محمد عبدالوهاب ...
عبدالحليم حافظ ليس ملاكاً ولا شيطاناً انه إنسان يعيش فى فقط من اجل الفن وعليك وانت تستعيد تاريخه ومواقفه حتى السلبى منها أن تدرك أن رهانه الوحيد هو الفن ومن اجله تهون كل الاشياء ... نعم عبدالحليم يصدق فقط اذا غنى لانه ولد فقط لكى يغنى لتعيش قولبنا على ايقاع اغنياته حتى لو اضطر ان يردد فى لحظة وراء عدوية السح الدح امبوه !!